بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن مسائل الأنساك في الحج من المسائل التي تحتاج إلى ضبط وفهم ويقع فيها خلل كبير عند كثير من الناس فأردت التفصل فيها وأحوال التنقل بينها حيث إني لا أعلم من جمعها في مكان واحد
اعلم أن الأنساك في الحج ثلاثة أنواع عند جمهور العلماء :-
الأول : التمتع والثاني القران والثالث الإفراد .
وهذه الأنساك ليست من تقسيم الفقهاء بل استندت إلى دليل شرعي كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت :
" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج " .
ولفظ مسلم " فمنا من تمتع ومنا من قرن ومنا من أفرد " .
صفة التمتع : أن يحرم الإنسان بعمرة في أشهر الحج ثم يتحلل منها ثم يحرم بالحج من عامه .
وأما القران : فهو أن يهل الإنسان بالعمرة والحج معاً .
وأما الإفراد : فهو أن يهل الإنسان بحج فقط .وأما ما يزيده بعض الفقهاء من إتيان عمرة بعد الحج فهو غلط كما قاله ابن تيمية رحمه الله
وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله أي هذه الأنساك الثلاثة أفضل على أقوال :-
القول الأول : وهو مذهب الحنابلة أن التمتع أفضل , واستدلوا على ذلك من وجهين :-
الأول : أن فيه زيادة عمل فيخرج الإنسان بعمرة وحجة .
الثاني : أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمنى أنه لم يسق الهدي وتمتع وذلك في قوله " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " , ولا شك أن ما تمناه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأفضل .
القول الثاني : وهو مذهب المالكية والشافعية أن الإفراد أفضل , واستدلوا على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حج مفرداً , لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : " حج رسول الله صلى الله عليه وسلم مفرداً " .
القول الثالث : وهو مذهب الحنفية أن القران أفضل , واستدلوا على ذلك بأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم , بدليل ما رواه أنس رضي الله عنه كما عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة . والصحيح في هذه المسألة أن التمتع أفضلها لمن لم يسق الهدي بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " , ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بأن يتمتعوا ويحلوا من العمرة ,
مسألة : ما هي حجة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
اختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك , والمرجح أن نقول : ما ذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أهل ؟
والجواب على هذا السؤال في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاءني جبريل فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عُمرة في حجة .
وروى أحمد في مسنده من حديث أنس أنه قال صلى الله عليه وسلم " لولا أني سقت الهدي لجعلتها عمرة
ومن المسائل المهمة مسألة الانتقال من نسك إلى نسك آخر وهو على حالات :
أولاً : من أهل بعمرة – أي المتمتع – ثم أدخل عليها الحج – أي صار قارناً – :
نقل ابن المنذر وابن قدامة والقرطبي رحمهم الله وجماعة من أهل العلم إجماع أهل العلم رحمهم الله على أن له ذلك ويهل بإهلال القارن , واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وأنها أدخلت الحج على العمرة لما حاضت .
لكن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله خص ذلك بالمعذور وقال إن الدليل ثبت في حق من كان له عذر وهي عائشة .
لكن الإجماع ثابت فالصواب جوازه مطلقا
ثانياً : من أهل بالحج وحده ثم أدخل العمرة عليه فصار قارناً أي ينتقل من الإفراد إلى القران :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : وهو قول الجمهور أنه لا يجوز له فعل ذلك ولا يصح منه قال الشافعي رحمه الله هو قول أكثر من لقيته ، وذلك لأن الأصغر لا يقوى على الأكبر , وقالوا : إنه لم يأت دليل واحد يجيز هذا الانتقال , والله سبحانه وتعالى قال :" وأتموا الحج والعمرة لله ". فإتمام الحج واجب لمن أهل به واستدلوا أيضا بأن عليا رضي الله عنه منع رجلا أهل بحج فأراد أن يدخل العمرة عليه
القول الثاني : يصح وهو مذهب الحنفية وقول الشافعي رحمه الله في القديم
والذي يظهر أنه لا يصح لعدم الدليل
قال ابن قدامة : إدخال العمرة على الحج غير جائز فإن فعل لم يصح ولم يصر قارنا "
وقال ابن تيمية " إذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز على الصحيح لأنه لا يلتزم زيادة شيء وإنما جوزه أبو حنيفة بناء على أصله في أن عمل القارن فيه زيادة على عمل المفرد "
وكذا رجحه الشيخ ابن باز فقال " لا يصح لمن لبى بالقران أن يقلبها إلى الإفراد "
ثالثا : الانتقال من الإفراد أو القران إلى التمتع أي يفسخ حجه إلى عمرة فهي حالتان من إفراد إلى تمتع أو من قران إلى تمتع :
تحرير محل النزاع في هذه المسألة : لا يجوز فسخ الحج لمن لم ينو الإتيان به بعد عمرته إلا في حالة الفوات فلا يجوز فسخ الحج إلى عمرة لمن لم ينو أن يأتي بالحج بعده بالإجماع كما حكاه ابن تيمية وغيره
أما إذا انتقل من أجل أن يكون متمتعا فقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على أقوال :
القول الأول : وهو قول جمهور أهل العلم أنه لا يجوز له أن يفسخ الحج لقوله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " .
القول الثاني : وهو مذهب الحنابلة – وهو من مفرداتهم رحمهم الله أنه يسن واستدلوا بفعل الصحابة رضي الله عنهم حيث أهلوا بحج أو حج وعمرة ثم فسخوها إلى عمرة , وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
القول الثالث : وهو مذهب الظاهرية واختيار ابن القيم رحمه الله أنه يجب الفسخ
وهذا رأي ابن عباس رضي الله عنه واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة حيث أمرهم وغضب على من لم يستجب لأمره , ولما جاء في السنن من أن هذا الأمر كان للناس عامة وليس للصحابة رضي الله عنهم خاصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنه قال :" بل لأ بد " أي الفسخ , والصحيح في هذه المسألة والعلم عند الله أن القول الثاني هو الصحيح لفعل الصحابة رضي الله عنهم وقد سُئل أبو ذر رضي الله عنه – كما في صحيح مسلم – عن هذا الإحلال فقال كانت المتعة لنا خاصة وليست للناس عامة " وأما الحديث الذي استدل به أصحاب القول الثالث وهو عند أهل السنن , فإنه حديث منكر كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى , وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة فإنه كان خاصاً بهم والسبب أن أهل الجاهلية كان يكرهون ويستعيبون أن يتحلل الإنسان من عمرته ويخرج إلى منى وغيرها وهو متحلل , ولذلك قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم :" أنحل فيأتي أحدنا ومذاكيره تقطر " .
وقد اختلف من قال بصحة الانتقال هل يشترط أن يكون قبل الطواف أم لا :
القول الأول : يشترط أن يكون ذلك قبل الطواف وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وروي عن عطاء
القول الثاني لا يشترط وبه قال مالك وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأنه أدخل الحج على إحرام العمرة فصح كما قبل الطواف
وهذا الصواب وهو ظاهر فعل الصحابة رضي الله عنهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة إلا بعد أن انتهوا من السعي كما هو ظاهر الحديث
رابعا : رجل أهل بعمرة ثم فسخها وجعلها حجاً أي ينتقل من تمتع إلى إفراد :
اختلف أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : وهو قول جمهور أهل العلم أنه لا يصح فعله .
القول الثاني : وهو رأي لبعض الحنفية أنه يصح .
والصحيح الذي لا شك فيه أنه لا يصح وقد رجح هذا الشيخ ابن باز فقال " لا يصح لمن لبى بالتمتع أن يقلبه إلى إفراد "
وأختم بمسألة مهمة :
وهي أنه ينسب كثير من طلبة العلم إلى ابن تيمية أن من اعتمر في رمضان مثلا وأراد الحج أن الأفضل في حقه نسك الإفراد وهذا غير صحيح في فهم كلام ابن تيمية وسبب هذا الفهم هو أن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر أن من اعتمر قبل أشهر الحج فإن الحج مفرداً أفضل في حقه باتفاق الأئمة .
قال رحمه الله : " من اعتمر في سفرة، وحج في سفرة . أو اعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل من التمتع والقران، باتفاق الأئمة الأربعة ."
ومقصود ابن تيمية رحمه الله أن العمرة التي تكون لها سفرة خاصة أفضل من العمرة التي تكون مع التمتع ولهذا إذا رجع بعد عمرته السابقة فالشيخ لا يقول بأن الإفراد أفضل بل إن تمتع فهذا أكمل فيكون قد أتى بعمرة في سفرة سابقة ثم أتى بعمرة وحج فهذا أكمل وقد نص على هذا رحمه الله في أكثر من موضع
فقال رحمه الله كما في الفتاوى: " ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها، ثم أراد أن يسافر أخرى للحج، فتمتعه أيضا أفضل له من الحج، فإن كثيرًا من الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك، ومع هذا فأمرهم بالتمتع، لم يأمرهم بالإفراد، ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي، وهذا أفضل من عمرة وحجة " إ.هـ
فهذا نص منه أن التمتع أفضل من الإفراد
وكذلك قال رحمه الله كما في الفتاوى : " وأما من اعتمر قبل أشهر الحج، ثم رجع إلى مصره، ثم قدم ثانيًا في أشهر الحج فتمتع بعمرة إلى الحج، فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج في سفرته الثانية " وكذاك هنا يؤكد على أن التمتع أفضل له في السفرة الثانية "
وأختم بهذا الموضع فقد قال أيضا : وإن قدم في شهر رمضان وقبله بعمرة فهذا أفضل من التمتع، وكذلك لو أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من المتعة المجردة؛ بخلاف من أفرد العمرة بسفرة، ثم قدم في أشهر الحج متمتعا، فهذا له عمرتان وحجة، فهو أفضل، كالصحابة الذين اعتمروا مع النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضية، ثم تمتعوا معه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فهذا أفضل الإتمام "
أحسب أنه قد بان كلام ابن تيمية
ومن الغريب أن ابن عثيمين استشكل هذا الموضع عند تعليقه على الاختيارات حيث نقل البعلي عن ابن تيمية قوله "وإن اعتمر وحج في سفرتين أو اعتمر قبل أشهر الحج فالإفراد أفضل باتفاق الأئمة الأربعة ومن أفرد العمرة بسفرة ثم قدم في أشهر الحج فإنه يتمتع "
علق الشيخ فقال " اعلم أن هذه العبارة تنافي ما قبلها إلا أن تحمل على محمل بعيد من ظاهرها ..ولعل صواب العبارة : فإنه لا يتمتع " فزاد الشيخ حرف النفي " لا " وهذا بسبب أن الشيخ فهم أن ابن تيمية يتكلم عن نوع النسك وإنما الشيخ يتكلم عن تفضيل سفرة للعمرة على عمرة تكون مع التمتع وهذا لا إشكال فيه
|