بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
من المسائل التي اختلفت أنظار أهل العلم فيها وتباينت مسألة قدر القراءة في الصلاة المفروضة وهل لكل صلاة قدر محدد في السنة أم لا ؟
والذي يظهر أن الأصل في هذا الباب والفرضَ الذي يجب مراعاته = هو مراعاة أحوال المصلين وعدم التشديد عليهم ، بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه ليس في الباب سنة مخصوصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحديد السور التي تقرأ في الصلوات المفروضة ، وإنما السنة = هو التخفيف عليهم وعدم إضجارهم عند الحضور إلى الصلاة بسبب طول القراءة ، ودليل هذا الأصل = هو ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي مسعود البدري أنه قال " أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة )
وسبب هذا الزجر منه صلى الله عليه وسلم كما في سبب الحديث في أوله جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَخَافَةَ فُلَانٍ يَعْنِي إِمَامَهُمْ قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثم ذكر الحديث إن منكم منفرين ومن المعلوم أن صلاة الغداة هي أطول الصلوات التي كان يطيل فيها النبي صلى الله عليه وسلم القراءة ومع ذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على الإمام وسماه منفرا وجعل له أصلا يمشي عليه وهو مراعاة المصلين
بل إنه صلى الله عليه وسلم لما عين أحد الصحابة على إمامة قومه = لم يوصه بشيء مما يقرأ وإنما أوصاه بعدم إملالهم وإضجارهم كما في صحيح مسلم من حديث عُثْمَانُ بْنُ أَبِى الْعَاصِ الثَّقَفِىُّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ « أُمَّ قَوْمَكَ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَجِدُ فِى نَفْسِى شَيْئًا. قَالَ « ادْنُهْ ». فَجَلَّسَنِى بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِى صَدْرِى بَيْنَ ثَدْيَىَّ ثُمَّ قَالَ « تَحَوَّلْ ». فَوَضَعَهَا فِى ظَهْرِى بَيْنَ كَتِفَىَّ ثُمَّ قَالَ « أُمَّ قَوْمَكَ فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ ». بل في رواية أخرى عند مسلم " آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأَخِفَّ بِهِمُ الصَّلاَةَ ».
هذه هي قاعدة الإمامة والقراءة وهي آخر ما عهد في آخر حياته = مراعاة أحوال الناس ، وما أعظم تلك الحادثة التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع إمام أطال بالناس فانظر كيف كان إنكار النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الأَنْصَارِىُّ لأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا فَصَلَّى فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ مُعَاذٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ».
في الحديث عدة فوائد :
أولا : أنها كانت صلاة العشاء وأمره الرسول بقراءة هذه السور " الشمس ، الأعلى ، العلق ، الليل
ثانيا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من معاذ في السورة التي قرأها مما يدل على أن الجماعة يجب مراعاتها قبل كل شيء ولهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم إذا سمع صبيا يبكي خفف الصلاة قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ مَعَ أُمِّهِ وَهُوَ فِى الصَّلاَةِ فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْخَفِيفَةِ أَوْ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ.
ومن مراعاة أحوال الناس في الشريعة في الصلاة حكمة القصر فصلاة السفر تنقص في عدد ركعاتها من أجل مراعاة أحوال الناس
ولهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لا يوجد سور محددة للصلوات بل أصلهم هو التخفيف في القراءة وعدم الإطالة قال ابن عبد البر رحمه الله كما في التمهيد 9 / 146: وفي ذلك كله دليل على أن لا توقيت في القراءة في صلاة المغرب وكذلك غيرها بدلائل يطول ذكرها ) إلى أن قال : ( فيكون دليل العلماء على استحباب ما استحبوا من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم من أم الناس فليقصر وليخفف والحمد لله الذي جعل في ديننا سعة ويسرا وتخفيفا لا شريك له إ.هـ وقال في الاستذكار 1 / 426 : لا توقيت في القراءة عند العلماء بعد فاتحة الكتاب وهذا إجماع من علماء المسلمين ويشهد لذلك قوله - عليه السلام – " من أم الناس فليخفف " ولم يحد شيئا )
والدليل على هذا المذهب دليلان :
الأول : ما سبق أن الأصل هو مراعاة أحوال المأمومين لقوله أيكم أم الناس فليخفف وقوله إن منكم منفرين وقوله " أفتان أنت يا معاذ "
الثاني : هو اختلاف الأدلة ففي كل الصلوات روي فيها التطويل والتقصير فمثلا في المغرب روي أنه قرأ بالأعراف وقرأ بالمرسلات والطور وثبت أنه كان يقرأ بقصار المفصل بل نقل ابن رجب في فتح الباري الإجماع على قراءة قصار المفصل في المغرب وقل مثل ذلك في الفجر وبقية الصلوات فكل صلاة ثبت فيها قراءة السور الطويلة والقصيرة ولهذا قال السفاقسي كما في عمدة الباري 9 / 179: ( هذه الأحاديث تدل على أنه لا توقيت في القراءة فيها بل بحسب الحال )
وقال المباركفوري على شرحه للمشكاة 3 / 368: إن تطويل الخلفاء الراشدين كما يدل عليه الآثار المتقدمة كان لعلمهم برضا من خلفهم ، وبحرصهم على التطويل ، وأما اليوم فالتخفيف أولى هو واجب لقوله {صلى الله عليه وسلم} : من أم الناس فليخفف.
وقال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري : ( فدل هذا الاختلاف عن السلف أنهم فهموا عن الرسول إباحة التطويل والتقصيرفى قراءة الفجر وأنه لا حدَّ فى ذلك لا يجوز تعديه، ويمكن والله أعلم، أن يكون من طوّل القراءة فيها من الصحابة علمه حرص من خلفهم على التطويل وأما اليوم فينبغى التزام التخفيف؛ لأن فى الناس السقيم والكبير وذا الحاجة )
وقال ابن العربي في شرحه المسالك في شرح موطأ مالك 2 / 353 : ( وأما اليوم فالتخفيف أجمل لأن الناس لم يعتادوا ذلك )
كل هذه النقول وغيرها تدل على أن الصواب أن الجماعة تراعى فمثلا في وقت الصيف وعند قصر الليل والناس اعتادت على السهر بل وعندهم أعمال معيشية ملزمون بها فلا يناسب التطويل والإتعاب وكذلك في قيام رمضان فإن الناس يحيون الليل كله في الصلاة ثم يتسحرون فيأتون وقد أجهدوا أنفسهم
فإن قال قائل إن صلاة الفرض ألزم وأكثر أجرا من صلاة الليل فكيف يراعون من أجل سنة على حساب الفرض ؟
والجواب أن يقال إنه سبق أن الفرض أصله التخفيف وإنما هنا يتأكد التخفيف لأجل اعتبار آخر
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصواب هو التطويل في الفجر وعدم مراعاة الناس في هذا وأن هذا هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد انتصر ابن تيمية لهذا الرأي ورد ابن القيم رحمه الله على المخالفين له لكن الذي يظهر هو ما ذهب إليه ابن عبد البر وغيره من أن السنة هو التخفيف
وعليه فقراءة الأئمة تختلف من حيث سرعة القراءة ومن حيث تطبيق التجويد والترتيل فمن الناس من لو قرأ وجها في صفحة واحدة لضجر الناس ومنهم من لو قرأ وجها ونصفا لما ضجروا ولهذا فالضابط هو ارتياح الجماعة للإمام ولا مانع أن يسأل الإمام جماعته عن صلاته وهل هم راضون عن قراءته أم لا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
|